الدولة اليهودية الثانية
الثقافة و الديانة في المملكتين
إن أول ما يطالعنا في المشهد الديني لفلسطين الكبرى هو آلاف من التماثيل الأنثوية الصغيرة على هيئة رأس و جذع و نهدين عاريين , بلغ عدد القطع المكتشفة منها في أورشليم حوالي 3 آلاف ما بين القرن الثامن و القرن السادس قبل الميلاد .
نفهم من كتاب التوراة أن سكان المملكتين قد عبدوا الآلهة عشيرة و تدعى أيضاً بالاسم ايلات . تمثلها المنحوتات العاجية عارية الصدر في وضعية الوقوف و إلهان أقصر منها .
و يتجسد ذلك من خلال تماثيل عشيرة في المنازل , الملك منسي صنع تمثالاً لعشيرة و نصبه في هيكل أورشليم و ما هنالك من ذكر لها في التوراة , لكن لم يذكر محررو التوراة زوجها يهوه الذين كانوا يعبدونه إلى جانبها و الذي تحول إلى أله التوراة , هذان الإلهان هما قطبا ديانة الخصب في مناطق فلسطين .
و لم يعثر على لقى أثرية تدل على عبادة يهوى بالشكل التوراتي في كل المعابد التي عثر عليها و التي تعود لتلك المرحلة من الزمن .
أورشليم في العصر الفارسي
مما يزيد الغموض بالنسبة للنص التوراتي هو اختلاف عدد المسبيين بين محرر سفر ارميا و محرر سفر الملوك الثاني على كل عين البابليون جدليا , و التحق النبي ارميا بهم بعدد تحريره من الأسر , و دعا لعدم مقاومة بابل , وكان بعد فترة , أن عصابة من المعارضين المتحمسين صعدت بقيادة رجل من النسل الملكي اسمه إسماعيل بن نثنيـا , فقتلت جدليا في مقره و مزقت الحامية الكلدانية و انسحبت إلى بيت عمون .
خاف السكان و التفوا حول قائد موال لجدليا القتيل اسمه يوحانان بن قاريح و كان يحثهم على النزوح لمصر , و لكن النبي ارميا رفع صوته محذراً من ترك الأرض .
لم يسمع الشعب , لكن لابد أن قسماً لا بأس به قد بقي في الأرض , و تابع حياته المعتادة .
بعد استلام الملك قوروش الفارسي على بابل يصدر مرسوماً بعودة سبي يهوذا إلى أورشليم , لكن المسبيين الذين كانوا يعيشون حياة دعة و اطمئنان , و خصوصاً الأثرياء منهم و أصحاب المناصب في الدولة الفارسية لم يكونوا مستعدين لترك كل شيء , خصوصاً أن أبناء الجيل الأول قد ماتوا , أما أبناء الجيل الثاني فلم يكن لديهم الحنين و الرغبة الصادقة في العودة لهذه الأرض الفقيرة . و أخيراً استطاع المدعو شيشبصر , أحد أفراد النسل الملكي , أن يجمع حوله عدداً من رؤوس الأسر الذين لهم رغبة بالعودة . يبدو أن معظمهم كان من فقراء الحال , و قبل أن يبدأ شيشبصر رحلته عينه الملك والياً على مقاطعة يهود " من الاسم يهوذا " التي أحدثت . و لكي يساعده الملك قوروش فقد أعاد له كنوز معبد أورشليم التي نهبها البابليون , كما أن عدداً من الأغنياء الذين لم يكن لديهم رغبة بالعودة تبرعوا لمساعدة أخوتهم الفقراء العائدون . جاءت المجموعة الثانية في عهد الملك داريوس , ابن قمبيز و حفيد قوروش (522- 486 ق . م ) قادها زر بابل الذي عين والياً على مقاطعة اليهودية و أعطي ما تبقىمن كنوز الهيكل .
شرع زر بابل فور وصوله ببناء الهيكل , بمساعدة الكاهن يشوع و رفض مساعدة السكان الأصليين و السامريين الذين عابهم اختلاطهم بالشعوب الأخرى . .
بعد انتهاء بناء بيت الرب 516 ق م صمتت الرواية التوراتية حتى استلام الملك أرتحشا ( أرتزاكسيس الأول ) و انطلقت الموجة الثالثة من العائدين إلى أورشليم , بقيادة الكاهن عزرا ابن سرايا , بناء على توجيهات الملك و بدم كامل منه . و كان على عزرا أن ينظم الأمور وفق شريعة حملها معه من فارس سميت بشريعة الرب و شريعة الملك إعطائها الصفة الإلهية و الصفة الملكية معاً .
عين الملك نحميا والياً على المقاطعة و عمد إلى تحصين المدينة .
اليهود و اليهودية
لقد كانت القرون الثلاثة بين القرن السادس و القرن الثالث , هي فترة تشكل و صياغة الديانة اليهودية , فعزرا الذي قرأ الشريعة على الناس , كان يحمل شريعة جديدة لأن المجتمعين كانوا يسمعونها لأول مرة , و كان على عزرا أن يشرحها لهم , و العهد هو بين الشعب و الإله بعد عودة المسبيين لا قبل ؟ . و الأرض الموعودة هي هذه من ملك الفرس و بالتالي فإن سفري عزرا و نحميا هما أول أسفار التوراة لا آخرها و منهما تشكل كل التوراة .
و خلال ثلاثة قرون من عكوفهم على صياغة الدين الجديد , لم يكن كل ما كتبوا من بنات أفكارهم بل من القصص الشعبي المتوارث , وواضح من عدد المسبيين الكبير العائد أن قوروش أرسل جماعات خليطة , لذا عمدوا من خلال الدين إلى إعطاء نفسهم النسب الواحد كي يلتموا حول راية واحدة و نراهم قد رفضوا السكان الأصليين بسبب اختلاطهم بالغرباء .
أورشليم العصر الهلنستي
بعد معركتين رئيسيتين في آسيا الصغرى , هما معركة سيرانيكوس عام 334 ق م , و معركة إيسوس عام 333 ق م , انفتحت بوابة المشرق أمام الاسكندر المقدوني , و تراجع الفرس إلى ما وراء الفرات , فتابعت جيوشه مسيرتها جنوباً و غنمت بلاد الشام ووصلت إلى مصر عام 331 ق م . بعد أن استقرت له الأمور في مصر , عاد الاسكندر إلى سورية فاجتاز الفرات و غنم كامل بلاد الرافدين , ثم طارد الفرس إلى عقر دارهم , و تابع مسيرته شرقاً حتى وصل الهند عام 326 ق م , و هناك اضطر للتوقف تحت ضغط قواده و عامة جيشه
لم يطل العمر بالاسكندر حتى يرى تحقيق حلمه في بناء إمبراطورية شرقية مطبوعة بالطابع الهيليني . و بعد فترة صراع بين قادته الرئيسيين تم تقسيم الإمبراطورية الفارسية السابقة بين بطليموس و سلوقس , حيث استقل بطليموس بمصر و سورية الجنوبية , و استقل سلوقس بسورية الشمالية و وادي الرافدين و كامل ما وراء الدجلة شرقاً .
غير أن خلفاء سلوقس لم يتمكنوا من الحفاظ بفارس مدة طويلة .
من الوسائل التبشيرية التي اتبعها الاسكندر لنشر الثقافة الإغريقية في الشرق هي بناء مدن إغريقية الطابع , فإضافة لمدينة الإسكندرية التي بناها على شاطئ المتوسط المصري , عمد إلى بناء عدد من المدن , مثل جرش و حول مدن أخرى إلى إغريقية مثل السامرة , التي أطلق عليها سيباسطة , لكن حركة البناء لم تنشط إلا في عهد سلوقس الأول ( نيكاتور )
بنى سلوقس نيكاتور أربع مدن رئيسية هي إنطاكية و سلوقية و أفامية و اللاذقية , إضافة لعشر مدن باسم إنطاكية و تسعاً باسم سلوقية ( و تمييز باسم منطقتها " إنطاكية تحت لبنان " )
سعى الحكام الِإغريق لنشر ثقافتهم الخاصة و أساليب حياتهم , و هذا مل تقبلته المناطق المحكومة عن طيب خاطر , بل و لقد سعت إليه لما يوفر لها من مزايا لدى الحاكم , سعياً للحصول على لقب بوليس . كانت الثقافة الإغريقية تنشر عن طريق المؤسسات التالية
1. اللجمبازيوم : ملعب للتدريب
2. الستاديوم
3. الأوديوم : بناء مسقوف من الأعلى , مفتوح من الجوانب , للاستماع للموسيقى و العروض المسرحية الخفيفة .
4. المسرح المدرج theatre تقدم فيه العروض المسرحية الضخمة
5. الليكيوم leceum قاعة الاجتماعات
6. الآجورا Agora رواق الاجتماعات السياسية للمواطنين .
و رغم أن التنظيمات الإدارية البطليمية قد أنقصت من مساحة مقاطعة اليهودية عما كانت عليه مقاطعة يهود في العصر الفارسي , إلا أنها الآن صارت في قلب الإمبراطورية , هذا ما أخرج أورشليم من عزلتها و جعلها عرضة للتأثيرات الهيلينية أكثر فأكثر .
عندما دخل الملك السلوقي أنطيوخوس الثالث أورشليم عام 198 ق م أعطى المدينة امتيازات خاصة و ثبت فيها النظام الديني والسياسي القائم , و منذ ذالك الوقت ابتدأ الاتجاه الهيليني في المجتمع يعلن عن نفسه , فأخذ أبناء الطبقة الأرستقراطية يتخذون أسماء يونانية إلى جانب أسمائهم المحلية , و طالب البعض ببناء جمبازيوم و قبل الحاكم لكن لم يتم البناء بسبب رفض الفئة لمحافظة .
لكن حاول الإصلاحيين الموافقة بين الديانة اليهودية و الأفكار الهيلينية و الانتقال لفكرة الإله الشمولي و قد اتهموا بالهرطقة . استلم العرش أنطوخيوس أبيفانوس , و كان بطبعه ميالاً لهيلنة المدن , فاستبدل كبير الكهنة بآخر من التيار الإصلاحي ( ياسون ) الذي عمد لبناء جمبازيوم بجوار المعبد و صار ينفق عائدات الهيكل على المرافق العامة أكثر من القرابين الباهظة التكلفة , لكنه بدل ياسون بمينلاوس الأكثر قرباً للإغريق , مما أثار الفتنة فاضطر لضبط النظام عن طريق جيشه , و بعد عام أصدر قرار باستبدال الشريعة الموسوية بالقانون المدني السلوقي . و المطابقة بين يهوه اليهودي و زيوس الأولمبي .
اعتبر أبيفانوس أول معاد للسامية و لكنه كثير البعد عن ذلك كما تصف جميع السلوقين , و لكنه عمد لذلك بناء على رغبة التيار الإصلاحي , و الرغبة بنشر الهيلينية . إلا أن نتائج هذه الإجراءات السابقة لأوانها بالنسبة لمقاطعة متخلفة مثل اليهودية أدت لنتائج فاقت توقعات أبيفانوس و حلفائه الإصلاحيين , و كان لها أثر لا يمحى من تاريخ أورشليم اللاحق .
المكابيون و قيام الدولة اليهودية
لو أن ما حصل في أورشليم قد حصل أي مدينة سورية تطمح إلى مرتبة المدينة اليونانية , لكان الأمر طبيعياًَ . لكن المجتمع اليهودي المحافظ لم يكن جاهزاً بعد للانفتاح . تحول التململ إلى حرب عصابات بقيادة رجل يدعى متى حشمون , و كان لمتى هذا خمسة أولاد , هم يوحنا الملقب كديس , و سمعان المسمى طسّي , و يهوذا الملقب المكابي , و ألعازر الملقب أوران , و يوناثان الملقب أفوُّس .
بعد عامين استطاع الأخوة بقيادة المكابي طرد الحامية السلوقية .خارج منطقة أورشليم عام 164 ق م , و طهروا المعبد من كل رموز الإصلاح الديني . تولى القيادة بعد مقتل المكابي أخوه يوناثان الذي اضطر للانسحاب و الاحتماء ببيت لحم . بعد وفاة أبيفانوس , و كان ابنه صغيراً على تولي مقاليد الحكم , نشب صراع على عرش سلوقيا , الأمر الذي أتاح الفرصة ليوناثان العودة لأورشليم و تصرف كحاكم مستقل عن السلطة المركزية .
بعد تصفية باقي المطالبين بالعرش تركز الصراع في إنطاكية بين أميرين سلوقيين هما الكسندر بالاس و ديميتريوس , فراح كل منهما يخطب ود حكام المقاطعات السورية , و هنا وقف يوناثان إلى جانب ديميتريوس , و كان قراره صائباً , فكافأ ديميتريوس كل من ساعده و من بينهم يوناثان الذي تم تثبيته كاهناً أعلى , و سمح له بالاحتفاظ بقوات عسكرية خاصة به , و خففت عنه الضرائب , كما أعطي الإذن بتوسيع مقاطعته حتى عادت إلى ما كانت عليه أيام الفرس تقريباً .
في عام 143 ق م توفي يوناثان و خلفه أخوه سمعان , آخر الأخوة المكابييين من أبناء متى حشمون , و هو المؤسس الحقيقي لدولة أورشليم المستقلة , و في عهده تمت النقلة الحاسمة نحو استقلال مقاطعة اليهودية . فقد حاصر سمعان قلعة الأكرا السلوقية و افتتحها ثم هدمها حجراً حجراً و سواها بالتراب . و لم يكن الوضع السلوقي يسمح بالتدخل فخضع للأمر الواقع , و تم إعلان اليهودية دولة مستقلة عام 142 ق م كانت الدولة التي أسسها سمعان المكابي دولة دينية يرأسها الكاهن الأكبر الذي تركزت بين يديه السلطات الدينية و الدنيوية في آن معاً , اتخذ سمعان إلى جانب لقب الكاهن الأكبر لقبين آخرين هما : إثنارك ethnarchy أي رئيس الشعب , و ستراتيجيوس strategos أي القائد العسكري الأعلى . و قد ابتدأ بخطة شاملة لمحو كامل الآثار الهيلينية ,و العودة إلى التقاليد الدينية القديمة , فألغى المؤسسات التربوية و الثقافية الهيلينستية و أحل محلها نظام قومياً للتعليم قوامه شبكة من المدارس التي تعلّم أسفار التوراة و يقصدها كل الشبان بدل الجمبازيوم و الملاعب و المسارح اليونانية . ساعده في حملته الثقافية الرجعية هذه طائفة الصدوقيين التي كانت آخذة بالتشكل في تلك الآونة , و هي طائفة متزمتة تلتزم التفسير الحرفي اللاهوتي للتوراة , و ترفض كل شكل من أشكال التفكير الحر . حكم سمعان من 142 – 134 ق م , و عمل خلال هذه الفترة على توسيع مناطق نفوذه باتجاه الغرب و الشمال الغربي , فضم يافا إليه و حصل بذلك على ميناء على البحر المتوسط .
لم يأتِ تشكيل الدولة المكابيية نتيجة للقوة العسكرية للمكابيين , و لا لبطولات و تضحيات أولاد متى حشمون الذين رفعهم الخيال الشعبي في أسفار المكابيين إلى مصاف الأبطال الخرافيين . فمقاطعة اليهودية بعد كل شيء لم تكن سوى مقاطعة فقيرة ومتخلفة في كل شيء , و لم يكن بمقدورها تحقيق الاستقلال لولا التفكك السياسي للدولة السلوقية , و صعود نجم روما بعد سلسلة الحروب البونية التي قضت خلالها على منافستها قرطاجة , و نفتح أمامها الطريق للسيطرة على الشرق , فراحت تضغط على الدولة السلوقية و تفرض عليها الإتاوات الباهظة . و في الحقيقة , فإن استقلال اليهودية الذي اعتبر حدث فريد جاء ضمن عمليات استقلال عديدة عن الدولة السلوقية المفككة , . فبعد استقلال اليهودية استقلت جمهورية صور الفينيقية , ثم تبعتها صيدون فطرابلس فأشقلون فاللاذقية و بيروت .
و قد ساعد غياب السلطة لمركزية في المملكة على صعود نجم إمارتين عربيتين هما إمارة الأنباط و إمارة اليطوريين . فأما الأنباط فهم قبائل عربية متجولة أخذت تدريجياً تساكن الأدوميين في مناطقهم جنوب البحر الميت منذ القرن السادس قبل الميلاد , ثم ذابت العناصر الأدومية تدريجياً و طغت عليها العناصر النبطية , مدوا نفوذهم باتجاه الشمال مما وضعهم في منافسة مع الدولة اليهودية الناشئة "د.إحسان عباس " أما اليطورييون فكانوا شعباً عربياً أقام أيام الاسكندر المقدوني في المنطقة الواقعة بين جبل الحرمون و حوض الأردن الشمالي , و كانوا يقطعون طرق القوافل التجارية و يفرضون عليها الأتاوات , و تقول أخبار الاسكندر أنه ترك حصار صور و توجه غليهم في حملة تأديبية , اختفت أخبارهم حتى مطلع القرن الثاني حيث ظهروا في منطقة البقاع و اتخذوا من مدينة بعلبك عاصمة لهم .
توفي سمعان المكابي عام 134 ق . م و خلفه ابنه المدعو جون هيركانوس . كان هيركانوس تلميذاً نجيباً للتوراة , وقد اعتق أن الحكمة الإلهية قد اختارته لإعادة فتح كنعان على طريقة يشوع , كانت السامرة أول أهدافه فأحرقها بعد حصار عام و قتل الآلاف من سكانها . و قد تحولت السامرة في عصره إلى مملكة كبيرة اكتسبها بحد السيف .
توفي هيركانوس عام 104 ق م , و خلفه ابنه أرسطو بولس الأول الذي لتخذ لقب الملك . استطاع أرسطو بولس خلال سنة واحدة من حكمه ضم منطقة الجليل , ثم توفي فجأة و خلفه أخوه اليكساندر ينايوس . كان ينايوس آخر الشخصيات المهمة في الأسرة المكابية . و كان ينايوس أشرس حكام المكابيين فقد تابع سياسة التهويد تحت قوة السلاح , و مل ينج من طغيانه حتى سكان اليهودية الذين قتل الآلاف منهم . و هذا ما أحدث تململاً شعبياً في أورشليم و المقاطعة اليهودية , ما لبث أن تحول إلى تمرد بقيادة الطائفة الفريسية .
نشأ الفريسيون من قلب الطبقات الشعبية , و قد ورثوا قسماً لا بأس به من أفكار الإصلاحيين القدماء . إلا أن هؤلاء الإصلاحيين الجدد تميزوا بالاعتدال و بقوا ضمن الإطار العام للعقيدة التقليدية . و لكنهم قالوا بأن يهوه عندما أنزل الشرعة المكتوبة على موسى , قد أنزل معها في الوقت نفسه شريعة شفوية تم تداولها عبر أجيال الحكماء , و ا، هؤلاء الحكماء يستطيعون عبر هذه الشريعة الشفوية تفسير و تكميل الشريعة المكتوبة بما يتلاءم و الظروف المستجدة . و في المقابل , رفضت الطائفة الصدوقيية هذه الأفكار و أصرت على عدم وجود شريعة غير مكتوبة . التف الأرستقراطيون حول الصدوقييون و عامة الشعب حول الفريسيين و دار نزاع على شكل حرب أهلية دامت ست سنوات , و عندما بدأ ألكسندر ينايوس يحقق انتصاراته على المعارضة وافته المنية عام 76 ق م ووضع موته حداً للأزمة .
هذا و تظهر اللقى الأثرية من الفترة المكابية أن هؤلاء المكابيين الذين أنشأوا دولتهم على أسس أصولية منافحة عن الثقافة التوراتية , ما لبثوا أن تحولوا إلى هيلينيين معتدلين . فالقطع النقدية التي صكها ملوك المكابيين باللغتين المحلية و اليونانية تحمل رموزاً تشكيلية يونانية معروفة , مثل النجمة داخل الدائرة , و غصن النخلة , و قرون الماعز المزينة بالثمار .
بعد موت ينايوس عام 76 ق م خلفته زوجته سالومي التي حكمت تسع سنوات 76-67 ق م . تقربت سالومي خلال عهدها م الفريسيين و أوكلت إليهم مراكز حساسة في الدولة , فكانت سنوات حكمها عهد استقرار و مصالحة بين شرائح المجتمع المتناقضة . و بعد وفاتها تنازع ابناها أرسطو بولس الثاني و هيركانوس الثاني على السلطة .
و كان القائد الروماني بومبي قد صفى المملكة السلوقية , و دخل قائد جيوشه إلى دمشق آخر معاقل السلوقيين , حيث استقبل بترحاب كبير عام 65 ق م فقصده الأخوان المتنازعان و كل منهما يسعى لتثبيت نفسه حاكماً إقليمياً على اليهودية و ممتلكاتها . لكن وزير هيركانوس المدعو أنتيبار , و هو أدومي متهود , قد لعب دوراً دبلوماسيا مهماً , حيث قصد دمشق و اتفق مع القائد الروماني على فتح أبواب أورشليم للرومان , مقابل الاعتراف بسيده هيركانوس ملكاً على أورشليم . و كان أن أنصار أرسطو بولس قد تحصنوا في المدينة و رفضوا فتح الأبواب , فحاصرهم الرومان ثلاثة أشهر ثم فتحوا المدينة عام 63 ق م , و على الأثر ثبت بومبي هيركانوس في منصبه , و لكن لا كملك بل ككاهن أعلى يتمتع بصلاحيات الحكم و الإدارة , كما ثبت أنتيبار الأدومي في منصب الوزير الأول . و بذلك عادت اليهودية مقاطعة تحت حكم الرومان , و انتهت أول و آخر دولة مستقلة لليهود في فلسطين , و التي دامت قرابة الثمانين عاماً (142 – 63 ق م )
لا تعود نهاية الدولة اليهودية لنزاع الأخوة فلقد قامت هذه الدولة في ظل ضعف و تحلل المملكة السلوقية و لن يكتب لها العمر لتستمر حتى لو اتفق الأخوان بسبب وصول القوة الرومانية , و لم يكن لهذا الحكم أن يستمر حتى و لو لم تظهر روما على مسرح الأحداث فقد تحول ملوك الأسرة الحشمونية إلى طغاة يستمدون حكمهم من قوة السلاح , و انفض عنهم المتدينين و راحت المقاطعات التابعة تتحين الفرص للانفصال , و لم يكن دخول بومبي أورشليم إلا من قبيل إطلاق رصاصة الرحمة على مملكة في طور الاحتضار , فجردها من جميع ممتلكاتها و أعادها على وضعها الطبيعي كمقاطعة فلسطينية صغيرة تابعة للولاية السورية الكبرى التي يحكمها قنصل روماني من دمشق . و هذه الخطوة كانت حتمية , إن لم يكن بسبب السياسة الرومانية الإمبراطورية , فبسبب بُعد النظام الديني المتعصب في هذه الدويلة عن الذائقة الرومانية و عن فلسفة الحكم الرومانية .
تاريخ أورشليم & دمشق آرام و إسرائيل ) لفراس السواح
الثقافة و الديانة في المملكتين
إن أول ما يطالعنا في المشهد الديني لفلسطين الكبرى هو آلاف من التماثيل الأنثوية الصغيرة على هيئة رأس و جذع و نهدين عاريين , بلغ عدد القطع المكتشفة منها في أورشليم حوالي 3 آلاف ما بين القرن الثامن و القرن السادس قبل الميلاد .
نفهم من كتاب التوراة أن سكان المملكتين قد عبدوا الآلهة عشيرة و تدعى أيضاً بالاسم ايلات . تمثلها المنحوتات العاجية عارية الصدر في وضعية الوقوف و إلهان أقصر منها .
و يتجسد ذلك من خلال تماثيل عشيرة في المنازل , الملك منسي صنع تمثالاً لعشيرة و نصبه في هيكل أورشليم و ما هنالك من ذكر لها في التوراة , لكن لم يذكر محررو التوراة زوجها يهوه الذين كانوا يعبدونه إلى جانبها و الذي تحول إلى أله التوراة , هذان الإلهان هما قطبا ديانة الخصب في مناطق فلسطين .
و لم يعثر على لقى أثرية تدل على عبادة يهوى بالشكل التوراتي في كل المعابد التي عثر عليها و التي تعود لتلك المرحلة من الزمن .
أورشليم في العصر الفارسي
مما يزيد الغموض بالنسبة للنص التوراتي هو اختلاف عدد المسبيين بين محرر سفر ارميا و محرر سفر الملوك الثاني على كل عين البابليون جدليا , و التحق النبي ارميا بهم بعدد تحريره من الأسر , و دعا لعدم مقاومة بابل , وكان بعد فترة , أن عصابة من المعارضين المتحمسين صعدت بقيادة رجل من النسل الملكي اسمه إسماعيل بن نثنيـا , فقتلت جدليا في مقره و مزقت الحامية الكلدانية و انسحبت إلى بيت عمون .
خاف السكان و التفوا حول قائد موال لجدليا القتيل اسمه يوحانان بن قاريح و كان يحثهم على النزوح لمصر , و لكن النبي ارميا رفع صوته محذراً من ترك الأرض .
لم يسمع الشعب , لكن لابد أن قسماً لا بأس به قد بقي في الأرض , و تابع حياته المعتادة .
بعد استلام الملك قوروش الفارسي على بابل يصدر مرسوماً بعودة سبي يهوذا إلى أورشليم , لكن المسبيين الذين كانوا يعيشون حياة دعة و اطمئنان , و خصوصاً الأثرياء منهم و أصحاب المناصب في الدولة الفارسية لم يكونوا مستعدين لترك كل شيء , خصوصاً أن أبناء الجيل الأول قد ماتوا , أما أبناء الجيل الثاني فلم يكن لديهم الحنين و الرغبة الصادقة في العودة لهذه الأرض الفقيرة . و أخيراً استطاع المدعو شيشبصر , أحد أفراد النسل الملكي , أن يجمع حوله عدداً من رؤوس الأسر الذين لهم رغبة بالعودة . يبدو أن معظمهم كان من فقراء الحال , و قبل أن يبدأ شيشبصر رحلته عينه الملك والياً على مقاطعة يهود " من الاسم يهوذا " التي أحدثت . و لكي يساعده الملك قوروش فقد أعاد له كنوز معبد أورشليم التي نهبها البابليون , كما أن عدداً من الأغنياء الذين لم يكن لديهم رغبة بالعودة تبرعوا لمساعدة أخوتهم الفقراء العائدون . جاءت المجموعة الثانية في عهد الملك داريوس , ابن قمبيز و حفيد قوروش (522- 486 ق . م ) قادها زر بابل الذي عين والياً على مقاطعة اليهودية و أعطي ما تبقىمن كنوز الهيكل .
شرع زر بابل فور وصوله ببناء الهيكل , بمساعدة الكاهن يشوع و رفض مساعدة السكان الأصليين و السامريين الذين عابهم اختلاطهم بالشعوب الأخرى . .
بعد انتهاء بناء بيت الرب 516 ق م صمتت الرواية التوراتية حتى استلام الملك أرتحشا ( أرتزاكسيس الأول ) و انطلقت الموجة الثالثة من العائدين إلى أورشليم , بقيادة الكاهن عزرا ابن سرايا , بناء على توجيهات الملك و بدم كامل منه . و كان على عزرا أن ينظم الأمور وفق شريعة حملها معه من فارس سميت بشريعة الرب و شريعة الملك إعطائها الصفة الإلهية و الصفة الملكية معاً .
عين الملك نحميا والياً على المقاطعة و عمد إلى تحصين المدينة .
اليهود و اليهودية
لقد كانت القرون الثلاثة بين القرن السادس و القرن الثالث , هي فترة تشكل و صياغة الديانة اليهودية , فعزرا الذي قرأ الشريعة على الناس , كان يحمل شريعة جديدة لأن المجتمعين كانوا يسمعونها لأول مرة , و كان على عزرا أن يشرحها لهم , و العهد هو بين الشعب و الإله بعد عودة المسبيين لا قبل ؟ . و الأرض الموعودة هي هذه من ملك الفرس و بالتالي فإن سفري عزرا و نحميا هما أول أسفار التوراة لا آخرها و منهما تشكل كل التوراة .
و خلال ثلاثة قرون من عكوفهم على صياغة الدين الجديد , لم يكن كل ما كتبوا من بنات أفكارهم بل من القصص الشعبي المتوارث , وواضح من عدد المسبيين الكبير العائد أن قوروش أرسل جماعات خليطة , لذا عمدوا من خلال الدين إلى إعطاء نفسهم النسب الواحد كي يلتموا حول راية واحدة و نراهم قد رفضوا السكان الأصليين بسبب اختلاطهم بالغرباء .
أورشليم العصر الهلنستي
بعد معركتين رئيسيتين في آسيا الصغرى , هما معركة سيرانيكوس عام 334 ق م , و معركة إيسوس عام 333 ق م , انفتحت بوابة المشرق أمام الاسكندر المقدوني , و تراجع الفرس إلى ما وراء الفرات , فتابعت جيوشه مسيرتها جنوباً و غنمت بلاد الشام ووصلت إلى مصر عام 331 ق م . بعد أن استقرت له الأمور في مصر , عاد الاسكندر إلى سورية فاجتاز الفرات و غنم كامل بلاد الرافدين , ثم طارد الفرس إلى عقر دارهم , و تابع مسيرته شرقاً حتى وصل الهند عام 326 ق م , و هناك اضطر للتوقف تحت ضغط قواده و عامة جيشه
لم يطل العمر بالاسكندر حتى يرى تحقيق حلمه في بناء إمبراطورية شرقية مطبوعة بالطابع الهيليني . و بعد فترة صراع بين قادته الرئيسيين تم تقسيم الإمبراطورية الفارسية السابقة بين بطليموس و سلوقس , حيث استقل بطليموس بمصر و سورية الجنوبية , و استقل سلوقس بسورية الشمالية و وادي الرافدين و كامل ما وراء الدجلة شرقاً .
غير أن خلفاء سلوقس لم يتمكنوا من الحفاظ بفارس مدة طويلة .
من الوسائل التبشيرية التي اتبعها الاسكندر لنشر الثقافة الإغريقية في الشرق هي بناء مدن إغريقية الطابع , فإضافة لمدينة الإسكندرية التي بناها على شاطئ المتوسط المصري , عمد إلى بناء عدد من المدن , مثل جرش و حول مدن أخرى إلى إغريقية مثل السامرة , التي أطلق عليها سيباسطة , لكن حركة البناء لم تنشط إلا في عهد سلوقس الأول ( نيكاتور )
بنى سلوقس نيكاتور أربع مدن رئيسية هي إنطاكية و سلوقية و أفامية و اللاذقية , إضافة لعشر مدن باسم إنطاكية و تسعاً باسم سلوقية ( و تمييز باسم منطقتها " إنطاكية تحت لبنان " )
سعى الحكام الِإغريق لنشر ثقافتهم الخاصة و أساليب حياتهم , و هذا مل تقبلته المناطق المحكومة عن طيب خاطر , بل و لقد سعت إليه لما يوفر لها من مزايا لدى الحاكم , سعياً للحصول على لقب بوليس . كانت الثقافة الإغريقية تنشر عن طريق المؤسسات التالية
1. اللجمبازيوم : ملعب للتدريب
2. الستاديوم
3. الأوديوم : بناء مسقوف من الأعلى , مفتوح من الجوانب , للاستماع للموسيقى و العروض المسرحية الخفيفة .
4. المسرح المدرج theatre تقدم فيه العروض المسرحية الضخمة
5. الليكيوم leceum قاعة الاجتماعات
6. الآجورا Agora رواق الاجتماعات السياسية للمواطنين .
و رغم أن التنظيمات الإدارية البطليمية قد أنقصت من مساحة مقاطعة اليهودية عما كانت عليه مقاطعة يهود في العصر الفارسي , إلا أنها الآن صارت في قلب الإمبراطورية , هذا ما أخرج أورشليم من عزلتها و جعلها عرضة للتأثيرات الهيلينية أكثر فأكثر .
عندما دخل الملك السلوقي أنطيوخوس الثالث أورشليم عام 198 ق م أعطى المدينة امتيازات خاصة و ثبت فيها النظام الديني والسياسي القائم , و منذ ذالك الوقت ابتدأ الاتجاه الهيليني في المجتمع يعلن عن نفسه , فأخذ أبناء الطبقة الأرستقراطية يتخذون أسماء يونانية إلى جانب أسمائهم المحلية , و طالب البعض ببناء جمبازيوم و قبل الحاكم لكن لم يتم البناء بسبب رفض الفئة لمحافظة .
لكن حاول الإصلاحيين الموافقة بين الديانة اليهودية و الأفكار الهيلينية و الانتقال لفكرة الإله الشمولي و قد اتهموا بالهرطقة . استلم العرش أنطوخيوس أبيفانوس , و كان بطبعه ميالاً لهيلنة المدن , فاستبدل كبير الكهنة بآخر من التيار الإصلاحي ( ياسون ) الذي عمد لبناء جمبازيوم بجوار المعبد و صار ينفق عائدات الهيكل على المرافق العامة أكثر من القرابين الباهظة التكلفة , لكنه بدل ياسون بمينلاوس الأكثر قرباً للإغريق , مما أثار الفتنة فاضطر لضبط النظام عن طريق جيشه , و بعد عام أصدر قرار باستبدال الشريعة الموسوية بالقانون المدني السلوقي . و المطابقة بين يهوه اليهودي و زيوس الأولمبي .
اعتبر أبيفانوس أول معاد للسامية و لكنه كثير البعد عن ذلك كما تصف جميع السلوقين , و لكنه عمد لذلك بناء على رغبة التيار الإصلاحي , و الرغبة بنشر الهيلينية . إلا أن نتائج هذه الإجراءات السابقة لأوانها بالنسبة لمقاطعة متخلفة مثل اليهودية أدت لنتائج فاقت توقعات أبيفانوس و حلفائه الإصلاحيين , و كان لها أثر لا يمحى من تاريخ أورشليم اللاحق .
المكابيون و قيام الدولة اليهودية
لو أن ما حصل في أورشليم قد حصل أي مدينة سورية تطمح إلى مرتبة المدينة اليونانية , لكان الأمر طبيعياًَ . لكن المجتمع اليهودي المحافظ لم يكن جاهزاً بعد للانفتاح . تحول التململ إلى حرب عصابات بقيادة رجل يدعى متى حشمون , و كان لمتى هذا خمسة أولاد , هم يوحنا الملقب كديس , و سمعان المسمى طسّي , و يهوذا الملقب المكابي , و ألعازر الملقب أوران , و يوناثان الملقب أفوُّس .
بعد عامين استطاع الأخوة بقيادة المكابي طرد الحامية السلوقية .خارج منطقة أورشليم عام 164 ق م , و طهروا المعبد من كل رموز الإصلاح الديني . تولى القيادة بعد مقتل المكابي أخوه يوناثان الذي اضطر للانسحاب و الاحتماء ببيت لحم . بعد وفاة أبيفانوس , و كان ابنه صغيراً على تولي مقاليد الحكم , نشب صراع على عرش سلوقيا , الأمر الذي أتاح الفرصة ليوناثان العودة لأورشليم و تصرف كحاكم مستقل عن السلطة المركزية .
بعد تصفية باقي المطالبين بالعرش تركز الصراع في إنطاكية بين أميرين سلوقيين هما الكسندر بالاس و ديميتريوس , فراح كل منهما يخطب ود حكام المقاطعات السورية , و هنا وقف يوناثان إلى جانب ديميتريوس , و كان قراره صائباً , فكافأ ديميتريوس كل من ساعده و من بينهم يوناثان الذي تم تثبيته كاهناً أعلى , و سمح له بالاحتفاظ بقوات عسكرية خاصة به , و خففت عنه الضرائب , كما أعطي الإذن بتوسيع مقاطعته حتى عادت إلى ما كانت عليه أيام الفرس تقريباً .
في عام 143 ق م توفي يوناثان و خلفه أخوه سمعان , آخر الأخوة المكابييين من أبناء متى حشمون , و هو المؤسس الحقيقي لدولة أورشليم المستقلة , و في عهده تمت النقلة الحاسمة نحو استقلال مقاطعة اليهودية . فقد حاصر سمعان قلعة الأكرا السلوقية و افتتحها ثم هدمها حجراً حجراً و سواها بالتراب . و لم يكن الوضع السلوقي يسمح بالتدخل فخضع للأمر الواقع , و تم إعلان اليهودية دولة مستقلة عام 142 ق م كانت الدولة التي أسسها سمعان المكابي دولة دينية يرأسها الكاهن الأكبر الذي تركزت بين يديه السلطات الدينية و الدنيوية في آن معاً , اتخذ سمعان إلى جانب لقب الكاهن الأكبر لقبين آخرين هما : إثنارك ethnarchy أي رئيس الشعب , و ستراتيجيوس strategos أي القائد العسكري الأعلى . و قد ابتدأ بخطة شاملة لمحو كامل الآثار الهيلينية ,و العودة إلى التقاليد الدينية القديمة , فألغى المؤسسات التربوية و الثقافية الهيلينستية و أحل محلها نظام قومياً للتعليم قوامه شبكة من المدارس التي تعلّم أسفار التوراة و يقصدها كل الشبان بدل الجمبازيوم و الملاعب و المسارح اليونانية . ساعده في حملته الثقافية الرجعية هذه طائفة الصدوقيين التي كانت آخذة بالتشكل في تلك الآونة , و هي طائفة متزمتة تلتزم التفسير الحرفي اللاهوتي للتوراة , و ترفض كل شكل من أشكال التفكير الحر . حكم سمعان من 142 – 134 ق م , و عمل خلال هذه الفترة على توسيع مناطق نفوذه باتجاه الغرب و الشمال الغربي , فضم يافا إليه و حصل بذلك على ميناء على البحر المتوسط .
لم يأتِ تشكيل الدولة المكابيية نتيجة للقوة العسكرية للمكابيين , و لا لبطولات و تضحيات أولاد متى حشمون الذين رفعهم الخيال الشعبي في أسفار المكابيين إلى مصاف الأبطال الخرافيين . فمقاطعة اليهودية بعد كل شيء لم تكن سوى مقاطعة فقيرة ومتخلفة في كل شيء , و لم يكن بمقدورها تحقيق الاستقلال لولا التفكك السياسي للدولة السلوقية , و صعود نجم روما بعد سلسلة الحروب البونية التي قضت خلالها على منافستها قرطاجة , و نفتح أمامها الطريق للسيطرة على الشرق , فراحت تضغط على الدولة السلوقية و تفرض عليها الإتاوات الباهظة . و في الحقيقة , فإن استقلال اليهودية الذي اعتبر حدث فريد جاء ضمن عمليات استقلال عديدة عن الدولة السلوقية المفككة , . فبعد استقلال اليهودية استقلت جمهورية صور الفينيقية , ثم تبعتها صيدون فطرابلس فأشقلون فاللاذقية و بيروت .
و قد ساعد غياب السلطة لمركزية في المملكة على صعود نجم إمارتين عربيتين هما إمارة الأنباط و إمارة اليطوريين . فأما الأنباط فهم قبائل عربية متجولة أخذت تدريجياً تساكن الأدوميين في مناطقهم جنوب البحر الميت منذ القرن السادس قبل الميلاد , ثم ذابت العناصر الأدومية تدريجياً و طغت عليها العناصر النبطية , مدوا نفوذهم باتجاه الشمال مما وضعهم في منافسة مع الدولة اليهودية الناشئة "د.إحسان عباس " أما اليطورييون فكانوا شعباً عربياً أقام أيام الاسكندر المقدوني في المنطقة الواقعة بين جبل الحرمون و حوض الأردن الشمالي , و كانوا يقطعون طرق القوافل التجارية و يفرضون عليها الأتاوات , و تقول أخبار الاسكندر أنه ترك حصار صور و توجه غليهم في حملة تأديبية , اختفت أخبارهم حتى مطلع القرن الثاني حيث ظهروا في منطقة البقاع و اتخذوا من مدينة بعلبك عاصمة لهم .
توفي سمعان المكابي عام 134 ق . م و خلفه ابنه المدعو جون هيركانوس . كان هيركانوس تلميذاً نجيباً للتوراة , وقد اعتق أن الحكمة الإلهية قد اختارته لإعادة فتح كنعان على طريقة يشوع , كانت السامرة أول أهدافه فأحرقها بعد حصار عام و قتل الآلاف من سكانها . و قد تحولت السامرة في عصره إلى مملكة كبيرة اكتسبها بحد السيف .
توفي هيركانوس عام 104 ق م , و خلفه ابنه أرسطو بولس الأول الذي لتخذ لقب الملك . استطاع أرسطو بولس خلال سنة واحدة من حكمه ضم منطقة الجليل , ثم توفي فجأة و خلفه أخوه اليكساندر ينايوس . كان ينايوس آخر الشخصيات المهمة في الأسرة المكابية . و كان ينايوس أشرس حكام المكابيين فقد تابع سياسة التهويد تحت قوة السلاح , و مل ينج من طغيانه حتى سكان اليهودية الذين قتل الآلاف منهم . و هذا ما أحدث تململاً شعبياً في أورشليم و المقاطعة اليهودية , ما لبث أن تحول إلى تمرد بقيادة الطائفة الفريسية .
نشأ الفريسيون من قلب الطبقات الشعبية , و قد ورثوا قسماً لا بأس به من أفكار الإصلاحيين القدماء . إلا أن هؤلاء الإصلاحيين الجدد تميزوا بالاعتدال و بقوا ضمن الإطار العام للعقيدة التقليدية . و لكنهم قالوا بأن يهوه عندما أنزل الشرعة المكتوبة على موسى , قد أنزل معها في الوقت نفسه شريعة شفوية تم تداولها عبر أجيال الحكماء , و ا، هؤلاء الحكماء يستطيعون عبر هذه الشريعة الشفوية تفسير و تكميل الشريعة المكتوبة بما يتلاءم و الظروف المستجدة . و في المقابل , رفضت الطائفة الصدوقيية هذه الأفكار و أصرت على عدم وجود شريعة غير مكتوبة . التف الأرستقراطيون حول الصدوقييون و عامة الشعب حول الفريسيين و دار نزاع على شكل حرب أهلية دامت ست سنوات , و عندما بدأ ألكسندر ينايوس يحقق انتصاراته على المعارضة وافته المنية عام 76 ق م ووضع موته حداً للأزمة .
هذا و تظهر اللقى الأثرية من الفترة المكابية أن هؤلاء المكابيين الذين أنشأوا دولتهم على أسس أصولية منافحة عن الثقافة التوراتية , ما لبثوا أن تحولوا إلى هيلينيين معتدلين . فالقطع النقدية التي صكها ملوك المكابيين باللغتين المحلية و اليونانية تحمل رموزاً تشكيلية يونانية معروفة , مثل النجمة داخل الدائرة , و غصن النخلة , و قرون الماعز المزينة بالثمار .
بعد موت ينايوس عام 76 ق م خلفته زوجته سالومي التي حكمت تسع سنوات 76-67 ق م . تقربت سالومي خلال عهدها م الفريسيين و أوكلت إليهم مراكز حساسة في الدولة , فكانت سنوات حكمها عهد استقرار و مصالحة بين شرائح المجتمع المتناقضة . و بعد وفاتها تنازع ابناها أرسطو بولس الثاني و هيركانوس الثاني على السلطة .
و كان القائد الروماني بومبي قد صفى المملكة السلوقية , و دخل قائد جيوشه إلى دمشق آخر معاقل السلوقيين , حيث استقبل بترحاب كبير عام 65 ق م فقصده الأخوان المتنازعان و كل منهما يسعى لتثبيت نفسه حاكماً إقليمياً على اليهودية و ممتلكاتها . لكن وزير هيركانوس المدعو أنتيبار , و هو أدومي متهود , قد لعب دوراً دبلوماسيا مهماً , حيث قصد دمشق و اتفق مع القائد الروماني على فتح أبواب أورشليم للرومان , مقابل الاعتراف بسيده هيركانوس ملكاً على أورشليم . و كان أن أنصار أرسطو بولس قد تحصنوا في المدينة و رفضوا فتح الأبواب , فحاصرهم الرومان ثلاثة أشهر ثم فتحوا المدينة عام 63 ق م , و على الأثر ثبت بومبي هيركانوس في منصبه , و لكن لا كملك بل ككاهن أعلى يتمتع بصلاحيات الحكم و الإدارة , كما ثبت أنتيبار الأدومي في منصب الوزير الأول . و بذلك عادت اليهودية مقاطعة تحت حكم الرومان , و انتهت أول و آخر دولة مستقلة لليهود في فلسطين , و التي دامت قرابة الثمانين عاماً (142 – 63 ق م )
لا تعود نهاية الدولة اليهودية لنزاع الأخوة فلقد قامت هذه الدولة في ظل ضعف و تحلل المملكة السلوقية و لن يكتب لها العمر لتستمر حتى لو اتفق الأخوان بسبب وصول القوة الرومانية , و لم يكن لهذا الحكم أن يستمر حتى و لو لم تظهر روما على مسرح الأحداث فقد تحول ملوك الأسرة الحشمونية إلى طغاة يستمدون حكمهم من قوة السلاح , و انفض عنهم المتدينين و راحت المقاطعات التابعة تتحين الفرص للانفصال , و لم يكن دخول بومبي أورشليم إلا من قبيل إطلاق رصاصة الرحمة على مملكة في طور الاحتضار , فجردها من جميع ممتلكاتها و أعادها على وضعها الطبيعي كمقاطعة فلسطينية صغيرة تابعة للولاية السورية الكبرى التي يحكمها قنصل روماني من دمشق . و هذه الخطوة كانت حتمية , إن لم يكن بسبب السياسة الرومانية الإمبراطورية , فبسبب بُعد النظام الديني المتعصب في هذه الدويلة عن الذائقة الرومانية و عن فلسفة الحكم الرومانية .
تاريخ أورشليم & دمشق آرام و إسرائيل ) لفراس السواح